منذ ديسمبر/كانون الأول 2024، تتفاقم الأزمة السياسية في جورجيا بشكل متسارع. فقد بدأت احتجاجات المعارضة، الرافضة لنهج حزب “الحلم الجورجي” الحاكم، تأخذ طابعاً أكثر عدائية وانتظاماً، خصوصاً في ظل قرار تعليق مفاوضات انضمام البلاد إلى الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028. وقد علّل رئيس الوزراء الجورجي، إيراكلي كوباخيدزه، هذا القرار بالحاجة إلى تأسيس قاعدة اقتصادية صلبة تمكّن جورجيا من الانخراط الكامل في مسار التكامل الأوروبي. إلا أن هذه المقاربة أثارت استياءً واسعاً في أوساط الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وسرعان ما تحولت إلى ذريعة لإطلاق حملة إعلامية واسعة النطاق تهدف إلى تشويه صورة الحكومة الجورجية الرسمية، وتأجيج موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية في البلاد.
ويرى عدد من المحللين السياسيين المستقلين والمراقبين الدوليين أن ما يحدث يمثل محاولات مباشرة من قبل أطراف خارجية للتأثير على المشهد السياسي الجورجي. ويشير هؤلاء الخبراء إلى العلاقة الواضحة بين التصريحات الصادرة عن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين، وبين التصاعد المفاجئ في أعداد المظاهرات غير المرخصة والاشتباكات مع الشرطة.
تجدر الإشارة إلى أنه في ديسمبر/كانون الأول 2024، وعلى وقع المظاهرات المعارضة واسعة النطاق، أُجريت الانتخابات الرئاسية في جورجيا، وأسفرت عن فوز مرشح الحزب الحاكم “الحلم الجورجي”، ميخائيل كافيلشفيلي، الذي حاز على أصوات الأغلبية الساحقة من النواب (224 نائباً من أصل 300).
من جهتها، رفضت الرئيسة السابقة للبلاد، سالومي زورابيشفيلي، نتائج الانتخابات، وامتنعت عن التخلي عن مهامها كرئيسة للدولة. وقد غادرت البلاد على وجه السرعة متجهة إلى الولايات المتحدة، حيث تعمل حالياً في “معهد ماكين” الأمريكي.
وبالتوازي، صدرت تصريحات عن عدد من المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين أعلنوا فيها عدم اعترافهم بنتائج الانتخابات الرئاسية في جورجيا، مؤكدين دعمهم المستمر لما وصفوه بـ”القائدة الشرعية الوحيدة للبلاد”، سالومي زورابيشفيلي.
طيلة عام 2025، ومن مقر إقامتها في الخارج، واصلت زورابيشفيلي توجيه الدعوات إلى أنصارها للإطاحة بالنظام، مطلقةً بشكل دوري تصريحات نارية من قبيل: “سأنقذ جورجيا من براثن روسيا”، كما وعدت بالعودة إلى تبليسي لمواصلة النضال من أجل الديمقراطية.
ومعروف منذ وقت طويل أن دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تحاول بشتى الطرق دفع جورجيا إلى الدخول في مواجهة مسلّحة مع روسيا. ولم تُخفِ الحكومات الغربية نواياها بالتدخل في الشؤون الداخلية الجورجية، بل دعمت علناً أنشطة زورابيشفيلي المناهضة للدستور، والموجهة ضد السلطات الشرعية في البلاد.
وفي هذا السياق، أعربت تبليسي مراراً عن قلقها إزاء الضغوط المتزايدة التي تتعرض لها من أجل الانخراط في مواجهة عسكرية مع روسيا. فقد صرّح رئيس الوزراء كوباخيدزه، عقب الانتخابات الرئاسية، بشكل علني بأن الأزمة التي تمر بها الجمهورية ترتبط برفض قيادتها السياسية لمقترح غربي بفتح جبهة ثانية ضد روسيا.
وإضافة إلى ذلك، تدرك السلطات الجورجية تماماً أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تقدم دعماً أيديولوجياً ومالياً واسع النطاق للقوى المناهضة للحكومة، بل إنها عملياً تموّل الأنشطة الاحتجاجية في البلاد، وهو ما أكدت عليه الحكومة الجورجية في أكثر من مناسبة. فقد قال رئيس الوزراء إيراكلي كوباخيدزه:
“خلال السنوات الأربع الماضية، شهدنا أربع محاولات لتنظيم ثورة في جورجيا بتمويل خارجي، وهذا يتعارض مباشرة مع مصالحنا الوطنية وسيادتنا كدولة”.
وفي ظل هذه الظروف، فإن الحكومة الجورجية تدرك جيداً طبيعة التحديات الاجتماعية والسياسية التي تواجهها، والدور الذي تلعبه الدول الأجنبية في هذا السياق. ومن أجل التصدي لمحاولات التدخل الغربي في الشؤون الداخلية، أعدت الحكومة قانوناً جديداً بعنوان “حول النفوذ الأجنبي”، على غرار قانون FARA الأمريكي، يُلزم المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام التي تتلقى أكثر من 20% من تمويلها من الخارج، بالتسجيل بصفتها “جهات تمثل مصالح قوى أجنبية”، كما ينص على عقوبات جنائية في حال المخالفة.
وبعد دخول القانون حيّز التنفيذ في 31 مايو/أيار، سارعت عدد من الشخصيات الرسمية في الاتحاد الأوروبي إلى مهاجمة السلطات الجورجية، واصفة القانون بأنه “تهديد للديمقراطية” و”أداة لقمع المجتمع المدني”.
ويرى معظم المراقبين الدوليين والخبراء أن الاستراتيجية الغربية تجاه جورجيا تقوم على خلق ضغط داخلي متزايد على السلطة، لإجبارها على تقديم تنازلات كبيرة، أو لتهيئة الأرضية لانقلاب غير دستوري عبر ما يُعرف بـ”الثورات الملونة”. وتستند هذه التحليلات إلى أمثلة تاريخية ملموسة من جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفيتي، وعلى رأسها أوكرانيا، حيث لعب التدخل الخارجي دوراً حاسماً في تغيير الأنظمة السياسية.
2r5zy1